حكاية الإسكافي في زمن الحرب

كنتُ في شارع السوق الذي يعج بالحركة والحياة، لكن الحذاء الذي أرتديه كان مصدر قلق مستمر. فردة الحذاء اليمنى بدأت تتآكل، وأصبحت تتملص من قدمي مع كل خطوة أخطوها. انحنيتُ لأتفحصها واكتشفت أن الزمن قد أحدث فتقاً فوق الكعب على حافتها العليا من الخلف. 

 

حكاية الإسكافي في زمن الحرب

 

لكن لحسن حظي، كنت في شارع مزدحم بالباعة والحرفيين، وعلمتُ أنه لابد من إيجاد إسكافي يمكنه إصلاح حذائي. لم أكن بحاجة إلى البحث طويلاً، فقد وجدته بين بسطات الخضار والمعلبات.

كان شاباً وسيماً، ذو عينين خضراوين، يجلس على كرسي بلاستيكي قديم. بجانبه، كانت توجد طاولة مليئة بالمعدات التي تشبه تلك الموجودة في مختبر العلوم الذي تم نهبه من المدرسة. على الطاولة، كانت هناك مقصات ثقيلة، وكومة من خيطان "المصيص" البنية السميكة، وإبر خياطة طويلة، وقطع جلد صغيرة بألوان مختلفة، وكومة من الأحذية المهلهلة التي تنتظر دورها للتصليح. على الأرض، كانت هناك كرتونة تحتوي على قطعة كبيرة من الجلد الأسود التي كان يقطع منها حسب الحاجة.

بادرته بالسلام، فردَّ عليَّ بأدب. وقفت بجانبه تحت فيئ الشادر الذي يقيه حرارة الشمس الحارقة، وتفحصت مشهده المذهل. لم يكن فقط ماهراً في خياطة الأحذية، بل كان قد تمكن من تعويض انقطاع التيار الكهربائي منذ بداية الحرب بوسيلة مبتكرة: بسكليت صغير!

أعطى إشارة البدء لابنه قائلاً: "يالله يا محمد"، وبدأ الابن في لف دعاسة عجل البسكليت لتدير الترس. مع كل لفّة، كان الشريط المطاطي يربط بين الترس وعجل رأس الماكنة، فتتحرك الإبرة وتبدأ في الخياطة. ثم يرفع الأب إشارة قف بيده فيفهم الابن ويتوقف عن تحريك الدعاسة. تأملت هذا الإبداع ونسيت حذائي، وبدأت أراقب المشهد بشغف.

سألته بلطف: "ابن من أنت؟" أجاب: "أنا ابن فلان." قلتُ: "رحم الله والدك، كان إسكافي المخيم، أعرف أهلك جميعهم، من أين أتتك العيون الخضراء؟" مازحتُه، فانفرجت أساريره وضحك.

سألته كم من الوقت يحتاج لترقيع فتق صغير في حذائي. أجاب: "أرني إياه." خلعته وناولته إياه، ووقفت نصف حافية. قال لي: "غيبي نصف ساعة، وارجعي."

أجبته: "أنا في عجالة من أمري اليوم، سأعود غداً إن شاء الله." فأجاب: "خلص، سأخيطه لك الآن."

أخرج قطعة الجلد السوداء من الكرتونة وقص منها قطعة كبيرة لتغطية الحذاء بالكامل من الخلف. استأذنته وأخذت المقص من يده، وقصصت شريحة رفيعة بعرض سم واحد على قدر الفتق وبطول لا يتعدى 3 سم. ابتسم وبدأ يخيطها، بينما كنت أوصيه: "دير بالك، رتب الخياطة، ماتعوجهاش."

أعدت الحذاء إلى قدمي، وأصبح صالحاً للاستعمال مرة أخرى. في زمن الحرب، حيث يصعب العثور على أحذية جديدة، كان الحذاء قد عانى معي عشرة أشهر، لكنه لا يزال يرافقني في كل خطواتي.

لله درك أيها الإسكافي، فقد أعدت إحياء مهنتك بقوة في زمن الحرب، رغم انقراضها لسنين طويلة. لقد أصبحتَ محط اهتمام الجميع، دون تمييز بين العامة والمثقفين والأكاديميين.

شكراً لك، لأنك قدمت لنا ما عجزنا عن إيجاده في الأسواق، وواصلت العمل رغم كل الصعاب.


#يوميات_الحرب_على_غزة #فائقة_الصوص (أم أيمن) #نصوص_من_غزة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق