ما أسهل الحديث أمام الميكروفون، وما أصعب الحديث أمامه في ذات الوقت. كما قال أبو حيان التوحيدي يوماً: "الكلام في الكلام صعب." وهذا ما يتجلى في حديث نيفين خضير مع مذيع البي بي سي العربية، حيث وصفت نفسها بـ "الناجية" من محرقة غزة إلى مصر. حديثها كان جارحاً، مؤلماً، ومبكياً، وقد كان كذلك فعلاً.
من أين أبدأ الكلام في الكلام؟ سأرتب ما قالته نيفين، الناجية، والتي بدأت حياتها الزوجية بانتقالها إلى مصر، بعد أن نزعتها الحرب من حضن الأبوين والعائلة، ثم نزعتها الحرب من بيتها وأرضها ووطنها، وألقت بها في تيهٍ لا ينتهي.
أول قضية هي المال اللازم للتنسيق للخروج من غزة إلى مصر، والذي تراوح بين خمسة آلاف وسبعة آلاف دولار للشخص الواحد. نيفين وفرت هذا المال من مصاغها كعروس، باعته بخسارة للنجاة بروحها وروح من تحب، بالإضافة إلى تبرعات ومساعدات من الأصدقاء والأقارب في الخارج. مصاغ العروس الذي تتباهى به كل سيدة وتحافظ عليه طيلة حياتها، بيع من أجل النجاة. كم هو جلف الطماع والمحتكر، وما أفحش تجار الحروب!
تحدثت نيفين عن رحلة العذاب إلى مصر، والتي تذكرنا بقصيدة محمود درويش عن رحلة المتنبي إلى مصر، حيث يقول: "للنيل عاداتٌ / وإني راحلُ / أمشي سريعاً في بلادٍ تسرقُ الأسماءَ منِّي..."
رحلت نيفين من غزة إلى مصر، متنازعة بين البقاء في الوطن وبين الرغبة في النجاة وإنقاذ روحها، وترك الأهل والوالدين يواجهون الموت، في حين أنها تواجه المجهول واللامعنى. ضياع ويأس، وتدمير الطموحات، كل ذلك ذهبت مع أزيز الطائرات.
المال والعيش كغريب هما معاناة أخرى. كيف ستعيش نيفين وزوجها وقد نفد المال، ولم يبقَ عمل أو مصدر دخل؟ ما يأتي من التبرعات يتبخر، ويبيعون ما بقي من مصاغهم. العمل معدوم لأنهم لم يحصلوا على إقامة في مصر. هل يمكن للمرء أن يشعر بالأمان وهو هارب من محرقة الحرب إلى محرقة الحياة والجفاء، وظلم ذوي القربى؟ هل هو لا شيء؟ هل يمكن أن يقول: "أنا مقيم إذن أنا موجود"، كما يقول ديكارت؟
الذين اختبروا نيران الغربة والمنافي يعرفون ذلك. يشعرون بأن جلد الإنسان ينكمش عليه ويتقلص حين يشعر بأنه في مكان لا يرغب فيه، أي لا يرغب فيه المكان وأهل المكان.
هل تفكر نيفين وزوجها بالعودة إلى غزة؟ أجابت نيفين بطريقة مبكية. الارتباط بغزة، الأهل، والبيت هو ارتباط وجداني وعاطفي، لكن لا حياة في غزة. لا حياة في غزة، هكذا عبرت نيفين وكررتها، وهي تفكر هي وزوجها بدولة يلجأون إليها لعلهما يكملان مسيرة الحياة.
وفيما يتعلق بتكوين أسرة، تساءل المذيع عما إذا كانت نيفين تفكر في إنجاب أطفال. تتنازع نيفين عاملان، الفطري الطبيعي من جهة، ولكن أين وكيف في ظل هذه الحال من جهة أخرى. هذا يبدو مخالفاً لمعنى الحياة والوجود.
ما أسهل الحديث أمام الميكروفون لمن يجلس مرتاحاً في كنبة في بيت مبرد يتوفر له كل شيء. وما أصعب الحديث أمام الميكروفون حين يكون الإنسان نازحاً مهدداً بالموت في كل لحظة، دون طعام أو ماء أو دواء، وفوق ذلك لا أمان ولا سلامة. الحديث أمام الميكروفون صعب ومؤلم حين يتحدث أحدهم عن "النجاة" في ظروف مثل هذه. ومثل نيفين، هناك ملايين بين الموتى، المفقودين، الجرحى، أو المبعثرين تحت رحمة القصف.
لطفك يا رب.
عواد أبو زينة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق