ليلة من ليالي الكتابة - تأملات في مساحة بيضاء

 الخامسة صباحاً. الساعة الآن الخامسة وعشر دقائق، حين قررت أن أدخل إلى مساحتي البيضاء هذه وأكتب. لم أنم الليلة، إنها ليلة من ليالٍ كثيرة بدا النوم فيها كمعجزة. لا أعرف إذا كان ما سأكتبه سيصبح نصاً ذا قيمة أو مجرد سببٍ واضح لهذه الكتابة، لكنني أجد نفسي أعود إلى هذه العادة المتكررة التي بدأت عندما كانت معلمتي "فاطمة" في الصف الثالث تمنحنا ورقاً أبيض وتدعو إلى "حفل كتابة". كنا نكتب ونخربش على مساحاتنا البيضاء، ثم تجمع الأوراق وتضعها في حقيبة وتذهب بها إلى المنزل. حرب 2014 قضت على معلمتي وورثت لنا سر الأبيض، ساحة الكتابة الحرة والتأويل الخاص بك وحدك! 

 

تأملات في مساحة بيضاء

 

كلما تذكرت يوم قتلها في بيتها، تذكرت ورقاً أبيض يتناثر كأشلاء من بيتها وصوتي وصوت زملائي يصرخ من الورق. صارت الكتابة على كل مساحة بيضاء عادة حتى في غرفتي. آخر مرة عاقبتني أمي واختارت ألوان البيت وتركتني أمام (الدهان) وحدي أقرر لون غرفتي. اخترت اللون الأزرق والرمادي، لكن الرجل اعترض قائلاً: "يليق بملابس لا ألوان غرفة!" فتركته يختار اللون الأبيض كي أتخلص من عبء الاختيار.

في بداية النزوح التقيت به، كان شاحباً بلون رمادي، قال: "صار لون كل البلد رمادي!" ليلة أخرى يهرب النوم من جسدي ومن روحي، فألحق به. تعبت فتجاهلته، انشغلت بقراءة عدد خريف 1999 من مجلة (الكرمل) التي جئت بها مع كتب استعرتها. ضحكت وتذكرت كيف تبدو قراءتنا كاختيار قدري أو صدفة، مسيرة لهذا الوقت. في عزلة كورونا قرأت وأصدقاء "شعلة قنديل"، وكتاب يليق بخيال العزلة، و"بينما ينام العالم" الذي يليق بنقاش شكل الهوية الذي لم يعد مجدياً الآن.

على ضوء (الليد) الضعيف جداً في إحدى فصول المجلة "خشاش وذاكرة": "في قبو السيوف ينتضى الظل قلباً أخضر كالأوراق. لامعة هي النصال: من لا يتريث في الموت واقفاً أمام المرايا. أيضاً تقدم هنا الشجاعة الحية في الأباريق: "سر السراخس." ص135.

أحب لفظ "المرايا"، وأشعر أن انعكاسي في عالم آخر هو (المرآة)، وكل صديق قريب أعتبره "المرآة". أفسد الباعوض أنس المرايا في ليلة الأرق العصيبة هذه، فانشغلت بحك جلدي حتى تقرح. نصحتني صديقة بأن أمسح جلدي بالكحول أو الخل، وقالت أخرى: "أشعلي كرتونة دخان يعمي الباعوض عنك!" أشعلت كرتون فخال لي مشهد الكاهن في معبد بوذي من رواية "طعام، صلاة، حب"، امرأة في معبد تصلي صلاة قتل الباعوض.

ننشغل نحن في قتل الباعوض، نفشل فنحك جلدنا حتى يتقرح انتقاماً. أغمضت عيني وبدأت أمشي في مشهد ابتدعته. فتحت عيني، أهش باعوض، فلمحت "برص" يمشي على الحائط، فتوقفت عن الصراخ. ليلة أمس صرخت امرأة من خيمة قريبة لأن قطاً دخل إلى خيمتها، فقال الجميع: "هذا بسة، كيف لو صاروخ!" خجلت أن أصرخ خوفاً من "برص".

لي صديق أسميه "صديقي البعيد الأقرب"، يبدو الأمر أجمل لو أنني انشغلت بكتابة رسالة له الآن بديلاً عن كل هذا الذي أفعله الآن. أخبره عن خوفي من "برص"، فيضحك فيمضي يحدثني عن مميزات البرص!

الآن عرفت كيف تبدو ثقل المخاوف الأخرى أولويات من الخوف من برص أو الصراخ منه! في عام 2013 بالقاهرة، هربت من مشهد فتية كانوا يحملون سكاكين، فقال أحدهم بلكنة مصرية: "غزاوية، وتخاف من سكين!" قلت: "لكل هوية مخاوفها!"

اليوم صار لكل حدث مخاوفه وشكل لصراخه! بدا الصباح يتشكل الآن أمامي، أحب كيف يبدو الصباح وكأنه أم تشق الباب على أبنائها النائمين. سأشعل الغاز وأغلي الحليب، أضيف الفانيلا والقهوة كحظ إنسان طبيعي. أنا مثلك أيها العالم، لكنني بجسد رمادي أسكب كل مرة دلو ماء بارد على جسدي كي أزيل صوت سقوط البيت والأصدقاء والمدينة من رأسي، لكن الماء يفشل كل مرة، فيظل الرماد على جسدي قروحاً إلى جانب قروح الباعوض.

منذ أسبوعين، صار الماء مالحاً أكثر، فانشغلت بإزالة أثر الملح واللون الرمادي عن جسدي! فار مني الحليب كالعادة، فاستعدت شكل الأبيض الذي أحب، فبدا الصباح وكأنه دلاء ماء انسكبت على جسد الليل. حين نظرت أسفل (البلكونة)، شاهدت سيدة تشجع ابنها على المشي بعد إصابة في قدمه. تذكرت ابتسامة الطفل في فيلم "Wonder" وكيف تظهر المعجزات على شكل أم. ليت العالم الآن يصفق لمشهد "السيدة المرآة" الآن التي شقت الباب وسكبت دلاء الماء على رمادية المشهد!

فداء زياد
اللوحة للفنانة تغريد حبيب
أغسطس 2024

#فصول_الدهشة_ومحاولات_النجاة #نصوص_من_غزة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق