📁 آخر الأخبار

خطبة الجمعة بعنوان: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) مكتوبة

خطبة الجمعة القادمة 25 أكتوبر 2024م 22 ربيع الثاني 1446هـ بعنوان : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا )

عناصر الخطبة :
(1) حسنِ الخلقِ وفضائله.
(2) حسنُ الخلقِ مع المجتمع كله .
(3) علاجُ سوءِ الخلقِ.

 

الموضوع :

الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا،
الحمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ،
ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعد :

أولاً :ثمراتُ حسنِ الخلقِ في السنةِ المطهرةِ:

أيها الإخوة المسلمون :
لقد دعَا دينُنَا إلى التخلقِ بمكارمِ الأخلاقِ، والابتعادِ عن الأخلاقِ السيئةِ،
والمستقرىءُ لسيرةِ سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ يجد أنَّهُ قد حازَ الفضائلَ كلَّهَا، وجمعَ الأخلاقَ جميعَهَا، بل كانت أخلاقُهُ لا نظيرَ ولا مثيلَ لهَا،
شَهِدَ له بذلك ربُّهُ فقالَ:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾
فهو فاقَ الأخلاقَ، فأصبحَ مستعليًا عليها، متصفًا بها ظاهرًا وباطنًا، قائمًا وقاعدًا مع أحبابِهِ وأعدائِهِ حتى صارَ مضربَ الأمثالِ،
وقد بيّنتْ السنةُ بعضَ ثمراتِ مَن يتحلَّى بحسنِ الخلقِ، ومنهَا:

1 - تحقيقُ الإيمانِ الكاملِ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» (أحمد).

2. - أثقلُ شيءٍ في ميزانِ العبدِ:

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» (الترمذي وحسنه) .
3 - : يبلغُ بهِ صاحبُهُ درجةَ الصائمِ القائمِ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» (أبو داود) .

4 - سببُ دخولِ الجنانِ:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ، فَقَالَ:«تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ»، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ:«الفَمُ وَالفَرْجُ» (الترمذي) .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (أبو داود) .

5 - : دلالةٌ على حسنِ الحسبِ وطيبِ المعدنِ:

عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» (ابن ماجه).

6 - القربُ مِن الرسولِ ﷺ يومَ القيامةِ:

عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ» (الترمذي وحسنه).

ثانياً حسنُ الخلقِ مع المجتمع :

** حسنُ الخلقِ مع الوالدينِ:

لقد استفاضت الأدلةُ على فرضيةِ الإحسانِ إلى الوالدينِ، ففي مواضعَ أربع مِن القرآنِ يُقرنُ ربُّنَا بينَ عبادتِهِ وبينَ برِّ الوالدينِ وشكرهِمَا منهَا:
﴿قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً﴾،
فلهما تلك المزيةُ والفضلُ؛ لِمَا تحملاهُ مِن مشقةٍ في سبيلِ تربيةِ الأبناءِ وتأدبيهِم خاصةً الأمُّ كما قالَ ربُّنَا: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ .
إنَّ دينَنَا دينُ الإنسانيةِ يأمرُنَا بالإحسانِ إلى الوالدينِ واحترامِهِمَا حتى ولو كانا غيرَ مسلمينِ وفاءً بحقهِمَا، وحفظًا لجميلِ صنيعِهِمَا قالَ ربُّنَا: ﴿وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾، وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ» (متفق عليه)،
أمَّا الإساءةُ إليهما فلا يجلبُ للإنسانِ إلّا الشقاءَ في الحياةِ فضلًا عمَّا ينتظرهُ في الآخرةِ مِن العقابِ، وهو ديْنٌ مؤجلٌ سيقتصُّ منه قال ﷺ قَالَ: «كُلُّ ذُنُوبٍ يُؤَخِّرُ اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا الْبَغْيَ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، يُعَجِّلُ لِصَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْمَوْتِ» (الأدب المفرد بسندٍ صحيح) .
إنَّ حسنَ الخلقِ مع الوالدينِ لا ينقطعُ بل هو موصولٌ بعدَ موتهِمَا، فعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِيفَاءٌ بِعُهُودِهِمَا مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا» (ابن ماجه)،
وعلى هذا تربَّى جيلُ الصحابةِ فخرجُوا وعلَّمُوا العالمَ بأسرِهِ، فها هو ابْنُ عُمَرَ: «خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، وكَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ، إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ، وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، قَالَ: بَلَى، فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا، وَالْعِمَامَة اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ، فَقيل لَهُ: غَفَرَ اللهُ لَكَ أَعْطَيْتَ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ» (مسلم) .

**حسن الخلق بين الأزواج:

الحياةُ الزوجيةُ أقوى الروابطِ الاجتماعيةِ على الإطلاقِ؛ لاحتوائِهَا على ناحيتينِ: إحداهُمَا: غريزيةٌ فطريةٌ، وثانيهُمَا: عاطفيةٌ وجدانيةٌ، ولذا وصفَ ربُّنَا عقدَ الزواجِ في كتابِهِ العزيزِ بـ “الميثاقِ الغليظِ”؛ لمتانةِ هذا العقدِ الذي يصعبُ نقضُهُ كالثوبِ الغليظِ الذي يعسرُ شقُّهُ أو تمزيقُهُ فقالَ تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، كما بيَّنَ ربُّنَا في كتابِه الحكيمِ أنَّ الأصلَ في العلاقةِ الزوجيةِ المودةُ فقالَ: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، فهذه الآيةُ لها أبعادٌ عميقةٌ في بناءِ المجتمعاتِ، فقد اشتملتْ على أشياءَ ثلاث: «السكنِ والمودةِ والرحمةِ»، فالسكنُ فيهِ معنى طمأنيةِ النفسِ واستقرارِهَا، وحمايتِهَا مِن تقلباتِ الحياةِ، وإدخالِ الأمنِ حيثُ يرتاحُ كلٌّ منهما إلى الآخر، ويسعدُ بهِ، ويجدُ لديهِ حاجتَهُ، فإذا ما اهتزتْ هذه المرحلةُ، ونفرَ أحدهُمَا مِن الآخرِ، جاءَ دورُ حسنِ العشرةِ التي تُمسكُ بزمامِ الحياةِ الزوجيةِ، وتوفرُ لكليهمَا قدرًا كافيًا مِن القبولِ، فإذا ما ضعفَ أحدهُمَا عن القيامِ بواجبِهِ تجاهَ الآخرِ جاءَ دورُ الرحمةِ، فيرحمُ كلٌّ منهمَا صاحبَهُ، يرحمُ ضعفَهُ ومرضَهُ،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» (مسلم)،
وبذلك تستمرُ الحياةُ ولا تكونُ عُرضةً للعواصفِ في رحلةِ الحياةِ الطويلةِ، فحسنُ الخلقِ إذا نُزعَ مِن المنزلِ كانت الحياةُ شقاءً ودمارًا على الأسرِ والمجتمعاتِ، ومِن وسائلِ حفظِ العشرةِ حفظُ أسرارِ البيتِ وعدمُ إفشاءِ أحوالِهِ خاصةً في حالِ الضيقِ والشدةِ، كما يجبُ على الزوجينِ أن يَعْرِفَ كُل منهما طِبَاعَ الآخَرِ، وَمَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ، وَمَا يُسْعِده ويُحزِنه، وَمَا يَنْبَغِي تَجَنبه مَعَهُ، فهذا أحرَى بدوامِ العشرةِ، وأبقَى للودِّ والمحبةِ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى سيدنا عُمَر وَقَالَ: «إِنَّنِي لاَ أُحِبُّ زَوْجَتِي وَأُرِيدُ طَلاَقَهَا، فَظَلَّ عُمَرُ يُنَاقِشُ الرَّجُلَ، وفِي نِهَايَةِ حِوَارِهِ مَعَهُ قَالَ لَهُ: يَا أَخَا الإِسْلاَمِ وَهَلْ عَلَى الحُبِّ وَحْدَهُ تُبنَى البُيُوتُ» ؟!. (الزواجر لابن حجر).
لقد أوجبَ الإسلامُ على الزوجينِ أنْ يعاملَ كلٌّ منهما الآخرَ بالحسنَى، وأنْ يصبرَا على بعضهِمَا فقالَ ربُّنَا: ﴿وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾، فإذا استنفدتْ كلُّ المحاولاتِ واستحالتْ بينهمَا العِشرةُ أصبحَ مِن الحكمةِ مفارقةُ أحدهمَا للآخرِ، وهنا شرعَ الحقُّ الطلاقَ للرجلِ أو الخُلعَ للمرأةِ؛ ليكونَ حلًّا لمثلِ هذه الحالاتِ بعدَ استنفادِ جميعِ الوسائلِ الممكنةِ، فأيُّهَا الأزواجُ إمّا معاشرةٌ بمعروفٍ أو فراقٌ بإحسانٍ، قَالَ ﷺ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ أَقَمْتَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» (متفق عليه)، وللهِ درُّ القائلِ:
احرصْ على حفظِ القلوبِ مِن الأذَى … فرجوعُهَا بعدَ التنافرِ يصعبُ
إنَّ النفوسَ إذا تنافرَ ودُّهَا … مثلُ الزجاجةِ كسرُهَا لا يشعبُ

**حسنُ الخلقِ بينَ الجيرانِ والرفقاءِ:

الإنسانُ مخلوقٌ اجتماعيٌّ أو مدنيٌّ بطبعِهِ كما يقولُ علماءُ الاجتماعِ فلا يمكنُهُ أنْ يعيشَ وحيدًا، وإنّمَا ضمنَ مجتمعٍ فيهِ فئاتٌ متنوعةٌ مِن البشرِ، ولذا كان عليهِ أنْ يحسنَ خلقَهُ مع جيرانِهِ وأصدقائِهِ في العملِ وغيرِهِ، قالَ ربُّنَا: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، وقد جعلَ الإسلامُ حسنَ الخلقِ مع الجارِ أيًّا كان صفتهُ سببُ دخولِ الجنةِ، وإيذائِهِ أحدُ موجباتِ النارِ، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ» (أحمد)، ومَن أرادَ أنْ يعرفَ أنَّهُ محسنٌ فلينظرْ إلى حالِهِ مع جيرانِهِ وأصدقائِهِ هل يحسنُ عشرتَهُم، ويحفظُ مودتَهُ؟ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ: كُنَّ مُحْسِنًا قَالَ: كَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: سَلْ جِيرَانَكَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّكَ مُحْسِنٌ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِنَّ قَالُوا: إِنَّكَ مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ» (الحاكم وصححه) .
ومِن أجمعِ وسائلِ حسنِ العشرةِ وحفظِهَا احترامُ خصوصياتِ الآخرين فلا نتتبعُ عوراتِهِم الماديةَ والمعنويةَ حتى تبقَى وصالُ المحبةِ والعشرةِ، فعن أَبِي بَرْزَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (أحمد وأبو داود)، وأنْ نبذلَ لهُم النصيحةَ ولا نضنَّ عليهم بمَا فيهِ نفعُ لهُم، ونصفحَ عن عثراتِهِم، ونتركَ تأنيبَهُم عليهَا‏، ونوسعَ عليهم ولا نحوجَهُم إلى السؤالِ، ولا نطمعَ في مالِهِم، ونحفظَ عهودَهُم، ونحترمَ مواعيدَهُم؛ لأنَّ هذا يعززُ الثقةَ، ويقوِّي أواصرَ التعاونِ، ويرأبُ الصدعَ، فمَا أحوجنَا إلى الوفاءِ بكافةِ صورِهِ وأشكالِهِ، ولذَا رتَّبَ رسولُنَا ﷺ على الاتصافِ بهِ أنْ كانَ ثوابُهُ الجنة، قالَ ﷺ: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ»، ونتفقدَهُم إذا غابُوا، ونزورَهُم إنْ مرضُوا وانقطعُوا عنَّا اقتداءً بحبيبِنَا ﷺ فمعَ عظيمِ انشِغالِهِ وكثرةِ مسئولياتِهِ ﷺ كان مِن هديهِ وسنتِهِ السؤالُ عمَّن غابَ مِن أصحابِه، فعن بُرَيْدَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَعَهَّدُ الْأَنْصَارَ وَيَعُودُهُمْ» (الحاكم وصححه)، بهذه القيمِ الرفيعةِ وتلك الأخلاقِ العاليةِ- التي جماعُهَا حسنُ الخلقِ وحفظُ المودةِ- يألفُ الإنسانُ ويُؤلفُ ويعشُ في النفوسِ مُعظَّمًا، وعلى الألسُنِ مُبجَّلًا، قَالَ ﷺ:«أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ» (شعب الإيمان).
أمّا مَن غَلُظَ طبعُهُ، واشتدَّتْ على الناسِ قساوَتُهُ، وكثُرَتْ شتامتُهُ فقد أساءَ العشرةَ والمخالطةَ، وخالفَ ما أمرَ بهِ قرآنُهُ، ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾،﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾، وحادَ عن سنةِ نبيِّنَا ﷺ، فعَنْ عائِشَةَ «أنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النبيِّ ﷺ فَلَمَّا رآهُ قَالَ: بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ وبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ ﷺ فِي وَجْهِهِ وانْبَسَطَ إلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قالَتْ لَهُ عائِشَةُ: يَا رسُولَ الله حِينَ رأيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وجْهِهِ وانْبَسَطْتَ إلَيْهِ؟ فَقَالَ ﷺ: يَا عائِشَةَ مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا؟ إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ الله مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ شَرِّهِ» (البخاري)، فأحسنُوا وارفقُوا حتى بأهلِ الفسقِ والفجورِ، واصبرُوا وتحملُوا، وأبشرُوا بالعاقبةِ، قالَ تعالَى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، ولهذا قال عبادُ اللهِ المرسلونَ لأممِهِم ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾، توعدُوهُم بالأذَى فوعدُوهُم بالصبرِ.

(5) حسنُ الخلقِ حتى مع الحيواناتِ والجماداتِ:

لقد تخطَّى حسنُ الخلقِ في الإسلامِ كلَّ الحواجزِ، وفاقتْ كلَّ الأوصافِ حتى شملتْ حسنُ الخلقِ مع الحيواناتِ والجماداتِ التي لا تعقلُ، فقد يتصورُ البعضُ أنّهَا منعدمةُ الشعورِ لكنْ يخبرُنَا القرآنُ خلافَ ذلك فيقولُ ربُّنَا: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾، وهذا الذي حدَا برسولِنَا ﷺ أنْ تقعَ شفقتُهُ على هذا العالمِ مِن المخلوقاتِ، لتشملَ حسنُ خلقِهِ كلَّ الموجوداتِ قالَ ﷺ قَالَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا» (متفق عليه).
لقد تحركتْ مشاعرُ النبيِّ ﷺ مع الجذعِ الذي بكَى وحنَّ شوقًا إليهِ ﷺ لكثرةِ وقوفِهِ عليهِ، فانظرْ كيفَ تعاملَ معهُ ﷺ وحفظَ ما سلفَ مع الجذعِ، فعنْ جَابِرِ «أنَّ امْرَأةً مِنَ الأنْصَارِ قالَتْ لِرَسولِ الله يَا رسولَ الله ألاَ أجْعَلْ لَكَ شَيْئا تَقْعُدُ عَلَيْهِ، فإنَّ لِي غُلاما نجَّارا قَالَ: إنْ شِئْتِ قَالَ فَعَمِلَتْ لَهُ المِنْبَرَ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ قَعَدَ ﷺ عَلَى المِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ فَصاحَتِ النخْلَةُ الَّتِي كانَ يَخْطُبُ عنْدَهَا حَتَّى كادتْ أنْ تَنْشَقَّ فنَزَلَ حَتَّى أخذَهَا فَضَمَّهَا إلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أنينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ قَالَ بَكَتْ عَلى مَا كانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ» (البخاري) .
مِن هنَا يُعلَمُ أنَّ الإنسانَ مستخلفٌ على الأرضِ وما عليهَا ومأمورٌ باستثمارِ خيراتِهَا، والمحافظةِ عليهَا، وهذا يفرضُ عليهِ أنْ يحسنَ المحافظةَ عليهَا، ويتصرفَ فيهَا تصرفَ الأمينِ، والمسؤولِ عنهَا، وأنْ يتعاملَ معهَا برفقٍ وأسلوبٍ رشيدٍ مِن أجلِ مستقبلِهِ ومستقبلِ الأجيالِ القادمةِ.

ثالثاً علاجُ سوءِ الخلقِ:

وضعَ الإسلامٌ علاجًا ناجعًا لمداوةِ سوءِ الخلقِ مِن ذلك:
1 -: تقويةُ الإيمانِ باللهِ وقوةُ الصلةِ باللهِ والاحتساب: احتسابُ أنَّ الخُلقَ ديْنٌ، وأنَّ الخُلقَ عقيدةٌ وتربيةٌ وسلوكٌ وتعاملٌ، فالرجلُ الذي جاءَ يشكُو سوءَ خُلقِ أقاربِهِ قالَ لهُ الرسولُ ﷺ: «لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» (مسلم).
2 -: الدعاءُ: أنْ تدعُو اللهَ أنْ يهبكَ خلقًا حسنًا، وهذا رسولُ اللهِ ﷺ كان يدعُو ويقولُ: «وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» (مسلم)، كان يدعُو ﷺ وهو مَن شهدَ اللهُ لهُ بأنّهُ على خُلقٍ عظيمٍ، فالأولَى أنَا وأنت، فاجعلْ هذا الدعاءَ في سجودِكَ، بينَ الأذانِ والإقامةِ، فالدعاءُ هذا مِن أعظمِ وسائلِ العلاجِ لسوءِ الخلقِ.
3 - : النظرُ في عاقبةِ سوءِ الخلقِ: تأملْ وتدبرْ وفكرْ في العاقبةِ والمآلِ الذي يجرُّ إليهِ سوءُ الخلقِ؟! وستجدُ دائمًا أنَّ سوءَ الخلقِ يُؤدِّي إلى أسوأِ العواقبِ، منها: كراهيةُ اللهِ سبحانَهُ لك، وكراهيةُ الرسولِ لك، وكراهيةُ الصالحينَ لك، وقربُكَ مِن النارِ، وبعدُكَ عن الجنةِ، وكراهيةُ الخلقِ، فلماذَا تعملُ على أنْ تكونَ مكروهًا عندَ اللهِ وعندَ خلقِهِ؟ العاقبةٌ وخيمةٌ، والنهايةُ والمآلُ سيئٌ.
4 - : الصبرُ: والصبرُ مِن الدينِ بمنزلةِ الرأسِ مِن الجسدِ، وقد جاءَ الأمرُ بهِ في القرآنِ الكريمِ في أكثرِ مِن تسعينَ موضعًا يقولُ سبحانَهُ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فتحلَّى دائمًا بالصبرِ، لا تكنْ سريعَ الانفعالِ، وإنَّمَا اصبرْ واكت وتبيَّنْ وتأكدْ واستوضحْ حتى تجمعَ المعلومات، ثم فكِّرْ وأنتَ تتخذ القرارَ في النهاياتِ والعواقبِ، وهل القرارُ هذا سيكونُ محمودَ النتائجِ أم نتائجهُ سيئةٌ؟ فهذا الصبرُ يهديكَ إليهِ، والعجلةُ والانفعالُ والسرعةُ في اتخاذِ القرارِ وعدمِ الصبرِ يُؤدِّي دائمًا إلى الندامةِ.
5 - : مصاحبةُ الأخيارِ ومجالستُهُم: حتى تكتسبَ شيئًا مِن صفاتِهِم، وتتعرفَ على شيءٍ مِن أخلاقِهِم، وبهذا تكونُ مثلَهُم قال ﷺ: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» (البخاري) .
نسألُ اللهُ أنْ يرزقنَا حسنَ الخاتمه
وأقم الصلاة...
المستشار التربوي
المستشار التربوي
أنا شغوف بتحسين التعليم وإثراء المحتوى الإعلامي. بدأت هذا الاهتمام منذ سنوات عديدة عندما لاحظت الفجوة الكبيرة بين ما يُدرس في المدارس وما يحتاجه الطلاب لمواجهة تحديات الحياة الحديثة. لهذا السبب، قررت أن أكرس حياتي المهنية لتطوير استراتيجيات تعليمية مبتكرة وتقديم استشارات فعالة للأفراد والمؤسسات. إذا كنت تشارك نفس الاهتمام أو تحتاج إلى استشارات في مجال التعليم أو الإعلام، فلا تتردد في التواصل معي. أنا هنا لمساعدتك ودعمك في رحلتك التعليمية والإعلامية.
تعليقات